العقل السياسي الليبي- من القرمانلي إلى مقاومة الغزو الإيطالي

المؤلف: فرج كندي09.27.2025
العقل السياسي الليبي- من القرمانلي إلى مقاومة الغزو الإيطالي

يمكن تتبع جذور الفكر السياسي الليبي المعاصر إلى نشأة الدولة القرمانلية في عام 1711، على يد مؤسسها البارع، أحمد باشا القرمانلي، الذي تعود أصوله إلى الأسرة العثمانية (قرمان)، وهذه الكلمة تشير في الأصل إلى فرسان الجيش، وهو اللقب الموروث عن جده الثالث، الذي خدم بشرف في البحرية العثمانية.

أحمد القرمانلي، الذي عاش وترعرع كضابط رفيع المستوى في الحامية العثمانية، تميز ببسالته النادرة وقوته التي لا تُضاهى، إضافة إلى شخصيته العسكرية القيادية الفذة التي أكسبته تقديرًا جمًا من القيادة العثمانية. وفي الوقت نفسه، أثار هذا الصعود السريع مخاوف شديدة لدى كبار الضباط المتنافسين بشراسة على النفوذ والسلطة في الولاية (ولاية طرابلس الغرب).

صراع الباشوات المحتدم في ولاية طرابلس

شهدت طرابلس صراعًا سياسيًا مريرًا بين الباشوات العثمانيين المتنافسين، مما أدى إلى حالة من الاضطراب السياسي العميق الذي انعكس بشكل سلبي على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأثر بشكل مباشر على معيشة السكان المحليين من تجار مرموقين وشيوخ قبائل ذوي نفوذ ووجهاء بارزين وعلماء دين أجلاء. هذا الوضع المتردي دفعهم جميعًا إلى الانخراط بفعالية في المعترك السياسي والمشاركة بصورة أو بأخرى في محاولة جادة لتحسين الأوضاع السياسية المتردية في الولاية، سعيًا لنشر حالة من الهدوء والاستقرار المنشود في بلاد عانت طويلًا من فوضى عارمة أثرت بشكل كبير على الحياة العامة في شتى مجالاتها.

بإيعاز من أهالي المنشية والساحل، الذين أظهروا ولاءً راسخًا لأحمد باشا، انطلقت دعوات حاشدة لتنصيبه حاكمًا على الولاية. وقدموا له دعمًا كبيرًا في محاصرة المدينة التي كان يتمتع فيها بتأييد واسع ومناصرين كثر، مما مكّنه في نهاية المطاف من دخول قلعة المدينة الحصينة. وعقب هذا الانتصار، انعقد الديوان في جلسة طارئة اتخذ فيها أعيان طرابلس قرارًا تاريخيًا برفض الباشا الموفد من قبل السلطان العثماني، وأبلغوا السلطان رسميًا برغبتهم القوية في تنصيب أحمد باشا حاكمًا عليهم، ورفضهم القاطع لولاية خليل باشا عليهم.

هذا التحرك السياسي الجريء، الذي قام به أهالي طرابلس بدعم كامل من الديوان والأعيان، يُعتبر بحق الخطوة السياسية الأولى والمهمة في تاريخ الفكر والعمل السياسي في ليبيا الحديثة، وأول لبنة صلبة في تكوين العقل السياسي الليبي المتميز.

وقد أثمر هذا الحراك الوطني عن اختيار حاكم بكفاءة واقتدار، وفرضه على الحكومة المركزية في إسطنبول، التي رضخت للأمر الواقع واستسلمت في نهاية المطاف واضطرت إلى الاعتراف باختيار الساسة الليبيين لحاكم البلاد، وإن كان ذلك على غير رغبة منها. وبذلك، فرض الليبيون إرادتهم السياسية بقوة على السلطة العثمانية، وهو ما يُعدّ نجاحًا سياسيًا باهرًا وتقدمًا كبيرًا بمعايير السياسة والسلطة في ذلك الوقت (1711). استمر حكم ولاية طرابلس الغرب وراثيًا في سلالة أحمد باشا إلى سنة (1835)، قبل أن يعود الحكم العثماني المباشر للولاية.

الدستور العثماني ومجلس (المبعوثان)

في أعقاب صدور الدستور العثماني في عام 1876، مُنحت طرابلس حقًا ثمينًا في التمثيل النيابي، والذي عُرف بمجلس (المبعوثان). ونظرًا لضيق الوقت المتاح وعدم القدرة على إجراء الانتخابات في حينه، فقد جرى تعيين نائبين عن طرابلس مباشرة من قِبل الوالي ومجلس إدارة الولاية في الدورة الأولى.

وفي الدورة الثانية في عام 1877، تم استبدال أحد النائبين المنتخبين وبقي الآخر في منصبه الرفيع. وقد أثار هذا الإجراء جدلًا واسعًا ووجهت إليه انتقادات لاذعة، وقُبل الطعن المقدم من الأستانة، مع الموافقة الفورية على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهو ما أيده المواطنون بقوة من خلال عريضة موقعة من ألفي شخص تحت إشراف مباشر من المجلس البلدي. وقد علق الكاتب الإيطالي المرموق إتوري روسي في كتابه القيم "ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911" قائلًا: "وتستحق هذه الواقعة أن نقف عندها بتأمل، لأنها تدل بوضوح على الحرية والشفافية التي كانت تُجرى بها الانتخابات في ذلك الوقت".

أول جمعية سياسية سرية

في أواخر الحقبة العثمانية وقبيل الغزو الإيطالي الغاشم لليبيا، ومع احتلال فرنسا لتونس الشقيقة، تصاعدت مشاعر القلق والخوف في ولاية طرابلس. وعلى إثر ذلك، قام نخبة من الشباب الوطنيين الغيورين، الذين يزيد عددهم عن عشرة أفراد من شرق الولاية وغربها (طرابلس وبرقة)، بإنشاء جمعية سياسية سرية تهدف إلى حماية البلاد.

وضعت هذه الجمعية برنامج عمل واضح المعالم حمل اسم "فوائد ونصائح"، وشرح هذا البرنامج بوضوح أهداف الجمعية النبيلة، ومن أبرزها:

  • إصلاح شامل لأوضاع الولاية المتردية من خلال تطوير شامل لنظام التعليم.
  • توعية الأهالي بمخاطر الاستعمار الأوروبي الزاحف، وخاصة الأطماع الفرنسية والإيطالية المتزايدة في الاستيلاء على الولاية.
  • دعوة صريحة للقبائل في جميع أنحاء البلاد إلى المصالحة ونبذ الفرقة والانقسام.
  • تجنب أي صدام مع الدولة العثمانية في ذلك الوقت الحرج للاتحاد وتوحيد الصفوف في مواجهة الخطر الداهم الذي يهدد البلاد.

استخدم أعضاء الجمعية كل الوسائل المتاحة في ذلك الوقت، من مساجد عامرة وصحافة جريئة وتجمعات ثقافية متنوعة، للتعريف بأهدافها النبيلة ونشر الوعي بين الأهالي. وهذا ما سهَّل بشكل كبير على الحكومة اكتشاف نشاط الجمعية السياسي، واقتياد أعضائها إلى المحكمة بتهمة باطلة وهي تشكيل "جمعية فساد في البلاد وتعريض نظامها للخطر". وصُدرت في حقهم أحكام قاسية تتفاوت بين النفي القسري من البلاد والسجن لمدد متفاوتة، وأُفرج لاحقًا عن بعضهم.

يُعدّ نشاط هذه الجمعية بحق أول تجربة حقيقية للعمل السياسي السلمي في تاريخ ليبيا الحديث، وقد اتخذ الطابع السري نتيجة للطبيعة القمعية للنظام الحاكم وما يفرضه من قيود مشددة على العمل السياسي، وما يتعرض له من يمارسه من سجن ونفي وتضييق. وقد ساهمت هذه التجربة الرائدة في تكوين العقل السياسي الليبي، سواء من الحكام أو من النخب الثقافية التي اهتمت بالسياسة وسعت جاهدة للإصلاح والتغيير، وقد أصبح القمع والتضييق سمة بارزة للتعامل مع العقل السياسي الليبي، وهو المنهج الذي استمر بصورة متفاوتة نسبيًا وأثر بشكل كبير في مسارات تطور العقل السياسي الليبي.

العمل السياسي البارز ومقاومة الغزو الإيطالي الشرس

ظهرت بوادر العمل السياسي الملموس الذي تفتق عنه العقل السياسي الليبي الجمعي من خلال بروز قادة سياسيين وطنيين في ولاية طرابلس، الذين تفطنوا مبكرًا للأطماع الإيطالية الخبيثة في طرابلس. تمثلت تلك الأطماع في التمهيد الممنهج لغزوها مع بدايات العقد الأول من القرن العشرين، من خلال البعثات الاستكشافية المشبوهة والإرساليات الاستخباراتية المتخفية تحت غطاء الجمعيات الاستكشافية، ومن خلال مشاريع اقتصادية ظاهرها الخير وباطنها الشر، مثل فروع بنك روما في طرابلس وبنغازي.

كانت ردة فعل الساسة الوطنيين في ولاية طرابلس سريعة وحاسمة من خلال تقديم عرائض تحذير وتنبيه لوالي طرابلس العثماني، وعقد اجتماعات مكثفة في بعض المدن للتحذير من نشاط البنك المشبوه ودوره الخبيث في الاستحواذ على الأراضي. كان البنك يقدم القروض للمواطنين بشروط مجحفة وبفوائد ربوية عالية جدًا تؤدي حتمًا إلى عجز المقترض المحلي عن السداد، فتقع الأرض المرهونة ضحية سهلة تحت ملكية البنك الإيطالي.

كما نشط الساسة الليبيون بفعالية في مقاومة التغلغل الإيطالي المتزايد من خلال الكتابة في الصحف المحلية والعربية المتاحة للتحذير من مغبة هذا التغلغل الخطير وعواقبه الوخيمة، وإعداد المواطنين وإدارة الولاية للاستعداد التام لمقاومة الغزو العسكري الوشيك الذي كانت تُعد له الحكومة الإيطالية على قدم وساق، والذي بدأ بإعلان الحرب الغادرة على الدولة العثمانية في سبتمبر/ أيلول 1911، ثم غزو طرابلس في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.

تحول نمط العمل في العقل السياسي الليبي إلى مرحلة جديدة ومختلفة، تمثلت في مقاومة الاستعمار الإيطالي البغيض وفق سياسة بارعة تجمع بين خطين متوازيين ومتلازمين، وهما: المقاومة العسكرية الشرسة، والعمل السياسي الدؤوب المستفيد من نتائج العمل العسكري، خلال فترة الاحتلال الإيطالي التي امتدت من عام 1911 إلى فترة الحرب العالمية الثانية، وخروج الطليان مذلولين من ليبيا، ودخول قوات الحلفاء المنتصرة عام 1942، برفقة جيش التحرير المصاحب لهم والمتكون من أبناء المهجرين الليبيين في مصر، تحت القيادة الرشيدة للأمير محمد إدريس السنوسي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة